
برلين – قسم الفنون والثقافة
منذ عرضها الأول عام 1937، ظلت معزوفة “كارمينا بورانا” للمؤلف الألماني كارل أورف واحدة من أكثر الأعمال الكورالية إثارة للاهتمام والجدل على حد سواء، ليس فقط بسبب جمالها الموسيقي وبنيتها الدرامية، وإنما لما ارتبط بها لاحقًا من تفسيرات وتأويلات رمزية، وصلت في بعض الأوساط إلى حد ربطها بالشيطانية أو الطقوس الغامضة.
أصول النصوص: رهبان ساخطون لا شياطين
تستند “كارمينا بورانا” إلى مجموعة من النصوص الشعرية التي تعود إلى القرنين 11 و13، وُجدت في مخطوطة تحمل الاسم نفسه في دير “بينيدكتباويرن” بجنوب ألمانيا. كُتبت هذه النصوص من قبل مجموعة من الرهبان الجوالة والمثقفين الساخرين، المعروفين باسم “الغولياردز”، وتميزت مواضيعهم بالنقد الاجتماعي والديني، والاحتفاء بملذات الحياة مثل الحب، الخمر، الحظ، ومواسم الطبيعة.
المعزوفة التي لحّنها أورف لا تحتوي على نص ديني تقليدي، لكنها تعكس رؤية فلسفية للعالم، تتقاطع مع مفاهيم مثل تقلبات القدر، لذة العيش، والهروب من القيود الأخلاقية السائدة آنذاك.
O Fortuna: لماذا التصقت بالشيطان؟
المقطوعة الافتتاحية للعمل، والمعروفة باسم “O Fortuna”، هي أكثر أجزاء العمل شهرة، وتُعد من أكثر المقطوعات استخدامًا في الأعمال السينمائية والإعلانية. تتسم بقوة درامية لافتة تبدأ بصوت كورالي قوي وإيقاع تصاعدي، ما يمنحها طابعًا مهيبًا، وأحيانًا مروّعًا.
هذا الطابع، إلى جانب استخدام اللغة اللاتينية القديمة، ومضمون النص الذي يتحدث عن قسوة القدر وتقلّب الحظ، ساهم في تشكيل صورة غامضة لدى الجمهور، استُثمرت لاحقًا في مشاهد سينمائية مرتبطة بالمعارك، الغضب، أو حتى الطقوس الغريبة. ومع تكرار هذا الاستخدام، بدأ يُنسج حول المعزوفة تصورٌ شعبي يربطها بالشيطان أو بالطقوس الوثنية، رغم خلوها من أي مضمون ديني مخالف أو رمزي صريح يوحي بذلك.
عمل مسرحي لا طقس ديني
أورف قدّم “كارمينا بورانا” كعمل مسرحي غنائي ضخم، يجمع بين الجوقة والأوركسترا المنفصلة، مع أداءات فردية. العمل ليس سيمفونية دينية أو قدّاسًا كنسيًا، بل مقاربة فنية لأسئلة وجودية، تتعلق بالحياة والقدر والرغبات. لا تتضمن المعزوفة أي إشارات صريحة إلى مفاهيم شيطانية أو رموز سوداء، ما يجعل ما يُشاع عنها في هذا السياق أقرب إلى التأويل الثقافي الحديث منه إلى الواقع التاريخي أو النصّي.
تأثير عالمي وإرث مستمر
منذ عرضها الأول في مدينة فرانكفورت عام 1937، حصدت “كارمينا بورانا” شهرة عالمية، وأصبحت واحدة من أكثر الأعمال الكورالية أداءً في المسارح الكبرى. كما تُدرّس اليوم ضمن برامج الموسيقى الكلاسيكية بوصفها نموذجًا فريدًا للجمع بين الشعر الوسيط والموسيقى الحديثة.
ورغم الجدل الذي يحيط بها، يظل العمل شاهدًا على قدرة الفن على تجسيد التناقضات البشرية، بين القدر والرغبة، وبين المتعة والخوف، بعيدًا عن الأدلجة أو التصنيفات السطحية.
المصدر: البوصلة